09‏/05‏/2013

الحذف البلاغي في التعبير القرآني



الجامعة الأردنية/كلية الدراسات العليا/ قسم التفسير
تقديم: إيناس محمود ناصر
موضوع الدراسة: الحذف و الذكر في القرآن.
 


                                        "بسم الله الرحمن الرحيم"

الحمد لله رب العالمين منزل الحق المبين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على إمام الموحدين المبعوث رحمة للعالمين .

فإن من عظيم منّ الله تعالى على عباده أن أرسل إليهم كتاباً ساطع النور مبهر الضياء، تستغرق النفس في سناءه، و تبحر  في سمت جماله.
هذا الجمال الذي كان لحسن البلاغة و البيان دور في تجلية صورته، و إبراز عظمته المعجزة، تلك العظمة التي استهوت القلوب، و أسَرَت الألباب و العقول، و لم يملك أمامها العرب الأقحاح، فرسان الفصاحة و مالكوا زمامها إلا الاستسلام و الإقرار بأفضلية كتاب العظيم المنان المنزل على خير الأنام.
 و من أعظم وجوه الإعجاز و أظهرها الإعجاز البياني، و ذلك لانتظامه القرآن كله،
و موضوع الإعجاز البياني في القرآن الكريم موضوع ذو شجون، و نكتفي في مقامنا هذا بالحديث عن باب من أبواب الإعجاز البياني؛ ألا و هو الحذف البلاغي في القرآن؛ و هو باب من أبواب المعاني له مذاقه و سحره، ومن جميل ما قاله الجرجاني في هذا الباب: انه باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن.(1)

و سنتناول في هذا البحث البسيط عدد من الأمور المتعلقة بموضوع الحذف منها:

*تعريف الحذف لغة و اصطلاحاَ.
* أنواع الحذف و وجوهه، مع ذكر الأمثلة القرآنية عليه.
*أدلة الحذف.
*الأغراض البلاغية للحذف.






المبحث الأول
معنى الحذف لغةً و اصطلاحاً

المعنى اللغوي للحذف:
هو ((الإسقاط، و منه حذفت الشعر إذا أخذت منه)).(2)

المعنى الإصطلاحي للحذف:
هو ((التعبير عن المعاني الكثيرة في عبارة أقل منها، بحذف شيء من التركيب مع عدم الإخلال بالمعنى)) فإن لم يف اللفظ بالمعنى كان إخلالاً.(3)

المبحث الثاني
أنواع الحذف و وجوهه


للحذف في القرآن الكريم ثلاثة أنواع: (4)

الأول- الإكتفاء:
و هو ان السياق يقتضي ذكر متقابلين اثنين، فيكتفى بأحدهما عن الآخر، و يترك الذهن يتملى الموقف، و يضيف ما يناسبه. كقوله تعالى: ((سرابيل تقيكم الحر))(النحل 81)، أي البرد، و تعليل هذا إما لأن الخطاب موجه للبيئة العربيةالحارة، او لأن الإشارة إلى البرد سبقت بقوله تعالى:((و من أصوافها و أوبارها و أشعارها أثاثاً))(النحل 80)

الثاني – الإحتباك:
و هو ما يقع في متقابلين حذف من كل منهما ما ذكر مقابله في الجانب الآخر. و هذا النوع لطيف خفي قد لا يهتدى إليه في أول وهلة، مما دعا البلاغيون الأوائل إلى عدم الإشارة إليه كمصطلح، و إن نبّهوا إلى موضوعه.
 و منه قوله تعالى:
((فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة))(آل عمران 13)
أي فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، و أخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت.

الثالث-الإختزال:
و هو الغالب في القرآن، و هو ما لم يندرج تحت الإكتفاء، أو الاحتباك. و يكون المحذوف في هذا الصنف حرفاً أو اسماً، أو جملة، أو أكثر من جملة (مشهد).

(أ‌)              حذف الحرف: قد يحذف في التعبير القرآني من الكلمة نحو (استطاعوا) و (اسطاعوا)، و (تتنزل) و (تنزّل)، و (لم يكن) و (لم يك) وما إلى ذلك. و كل ذلك لغرض و ليس اعتباطاً. فالتعبير القرآني تعبير فني مقصود، كل كلمة؛ بل كل حرف إنما وضع لقصد.
إن القرآن يحذف من الكلمة لغرض، ولا يفعل ذلك إلا لغرض، ومن ذلك على سبيل المثال:
انه يحذف من الفعل للدلالة على أن الحدث أقل مما لم يحذف منه،
 و أن زمنه أقصر، و نحو ذلك فهو يقتطع من الفعل للدلالة على الإقتطاع من الحدث، أو يحذف منه في مقام الإيجاز و الإختصار، بخلاف مقام الإطالة و التفصيل. (5)

*  و مثال ذلك قوله تعالى:

((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))(97 الكهف)
و هذه الآية قالها ربنا في السد الذي صنعه ذو القرنين من قطع الحديد و النحاس المذاب. قال تعالى على لسان ذي القرنين: ((آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) ))(الكهف).
فقال : (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي: يصعدوا عليه، فحذف التاء،                   
و الأصل: (استطاعوا)، ثم قال: (و ما استطاعوا له نقباً) بإبقاء التاء.
و ذلك أنه لما كان صعود السد الذي هو سبيكة من قطع الحديد
و النحاس أيسر من نقبه و أخف عملاً، خفف الفعل للعمل الخفيف،
فحذف التاء، فقال: (فما اسطاعوا أن يظهروه) و طوّل الفعل فجاء بأطول بناء له للعمل الثقيل الطويل فقال: (و ما استطاعوا له نقباً) فحذف التاء في الصعود و جاء بها في النقب.(6)

*  و قد يكون للحرف دور في تغيير الصورة! انظر لقوله تعالى:

((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)) (49البقرة) ،
 و قوله تعالى)): وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ))(6إبراهيم)
انظر إلى الجزء الخاص بالعذاب الذي كان يوقعه آل فرعون ببني إسرائيل. إن فيه اختلافا ًبين الآيتين يحدث تغييراً في الصورة، إن الفارق بين العبارتين حرف واحد، هو (الواو) التي جاءت في الآية الثانية قبل كلمة (يذبّحون)، و لكن انظر كم أحدث الحرف الواحد من الاختلاف بين الصورتين!

في الصورة الأولى ينحصر العذاب في قتل الأولاد و استحياء النساء، و في الثانية يصبح هذا الأمر واحد فقط من ألوان العذاب التي تصب على بني إسرائيل، و إن كان السياق يوحي بأنه من أبرزها، و أشدها و أخبثها. إذ أجمل (سوء العذاب) و فصّل قتل الأولاد و استحياء النساء.(7)


(ب‌)        حذف المفرد: و هو الأوسع مجالاً و الأكثر استعمالاً، و له صور كثيرة منها:
v  حذف المبتدأ:
و حذفه كثير في القرآن، ولا يخلوا هذا الحذف من هدف فني
 و نفسي. فهو يحذف مرة لكون الخبر يلم به، و يدل عليه، فلا يكون هناك داع لذكره، كمثل قوله تعالى:((كتاب أحكمت آياته))(1 هود). فالكتاب الذي أحكمت آياته، هو القرآن، يدرك من ظاهر القول، فالذكر هنا تطويل لا داعي له، و لا فنية فيه.
و لا تخلوا متابعة البلاغيين لهذا النوع من الحذف من الإشارات النفسية كمثل إشارتهم إلى قوله تعالى _حكاية عن سارة زوج سيدنا إبراهيم(عليه السلام)_: (( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)))(الذاريات).
و التقدير: أنا عجوز عقيم. حيث أشاروا إلى أنّه قد يحذف المسند إليه عندما يكون هناك ضيق في الصدر عن إطالة الكلام، و هذا ما حدث لسارة لما سمعت بشارو الملائكة لها بغلام، عجبت من أمرهم،
و استبعدت أن تلد بعد بلوغها حد الكبر و العقم!(8)

v  حذف الفاعل:
فعلى الرغم من أهمية الفاعل باعتباره ركناً جوهرياً في الجملة، فإنّه يحذف في بعض الأحيان حين تكون الدلالة على حذفه واضحة، خاصة في بناء الفعل للمجهول، و في فاعل المصدر، إلا أنه قد يحذف في حالات أخرى و الاعتبار عدم اللبس، و مثاله قوله تعالى: (( كلا إذا بلغت التراقي)) أي الروح، و قوله و قوله تعالى: (( حتى توارت بالحجاب)) أي الشمس.(9)

v  حذف المفعول:
أغراض الناس تختلف في ذكر الافعال المتعدية، فهم يذكرونها تارة
و مرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير ان يتعرضوا لذكر المفعولين.
فإذا كان الأمر كذلك كان الفعل المتعدي كغير المتعدى في أنه لا يكون له مفعول لا لفظاً و لا تقديراً ، و حذف المفعول كثير، لأنه يعتمد على قرائن معنوية في حذفه، فقد يكون لشهرة حذفه في موضع، و قد يكون للاختصار أو التعميم أو الإبهام أو غير ذلك.

*  ومن الأمثلة عل هذا مع الفعل علم، قوله تعالى: ((قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون))(9الزمر). فالمعنى: هل يستوي من له علم ومن لا علم له؟ و هنا جرى الفعل المتعدي كغير المتعدي ،
و يكثر حذفه بعد فعل المشيئة كقوله تعالى:(( و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم))(20البقرة ) أي و لو شاء أن يذهب بسمعهم لذهب.(10)

v  حذف المضاف:
و هو كثير في القرآن، و منه قوله تعال:((و اسأل القرية)) أي أهل القرية، و مثل المضاف يحذف المضاف إليه، و يطرد في حالات القطع عن الإضافة في كل، و أي، و بعض و غيرهن.(11)

v  حذف الصفة أو الموصوف:
يتَلون التعبير القرآني بالغرض الفكري و التربوي الذي ينشده، فقد يثبت الصفة للموصوف من أجل زيادة هذا الموصوف إيضاحاً
و تأثيراً في النفوس، فالصبر مثلاً؛ يوصف بالجميل لأنه من اشق التكاليف على النفس، و خاصة في موقف صبر يعقوب على يوسف، فجاء التعبير: ((فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون))(18يوسف).   

و لكن حين يكون الموقف في غير ما حاجة إلى تثبيت هذا الوصف،
 أو يكون التعبير موحياً بالصفة، فإن هذه الصفة تحذف، كما في قوله   تعالى : ((بفاكهة كثيرة و شراب))(51ص) أي و شراب كثير بدليل ما قبله.(12)

v  حذف القسم:
حذف القسم جاء كثيراً في القرآن، وقد يحذف القسم للعلم به من السياق فمن ذلك قوله تعالى: ((وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ))(145البقرة)، و قوله تعالى)): قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ))(88الإسراء).
يقول الزمخشري في الكشاف:(13)
 (لاَ يَأْتُونَ ) جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة ، لجاز أن يكون جواباً للشرط ، كقوله :
يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لِي وَلاَ حَرِمُ ... أن الشرط وقع ماضياً.

فهذا و نحوه من الآيات الكريمة دخلت فيه اللام على حرف الشرط مؤذنة بأن ما بعدها جواب قسم محذوف.

ومن حذف القسم أيضاً قوله تعالى: ((و لقد نادانا نوح فلنعم المجيبون))(75الصافات)، و التقدير: والله لقد نادانا نوح.

ففي هذه الأمثلة حذف القسم للعلم به، و قد أفاد الحذف التعظيم بدليل ذكره حين يكون غير لفظ الجلالة كما في قوله تعالى:
 ((و الفجر و ليال عشر))(2,1الفجر)، و قوله تعالى: ((و الضحى و الليل إذا سجى))(2,1الضحى).


(ج) حذف الجملة:
درج البلاغيون و بعض العلماء على فصل الجملة المستقلة عن غيرها مما تكون جواباً لشرط أو قسم، كما فعل صاحب كتاب المعاني في ضوء أساليب البيان، و الواقع أنها جملة في الأحوال كلها، فلا داعي لهذا الفصل.

v  حذف جواب القسم:
أما حذف جواب القسم فيظهر في قوله تعالى: ((وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5))) (الفجر). و تقدير الجواب: ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون .(14)

v  حذف جواب الشرط:
أما جواب الشرط فيكثر حذفه في القرآن للإختصار، أو للدلالة على انه شيء لا يحيط به الوصف، كقوله تعالى:(( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) ))(الزمر).
{ حتى } هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية ، إلاّ أنّ جزاءها محذوف ، وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة ، فدلّ بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وحق موقعه ما بعد خالدين .(15)


v  حذف المسبب وذكر السبب:
كما في قوله تعالى:
((لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)) (8الأنفال)
فإن قلت : بم يتعلق قوله : { لِيُحِقَّ الحق } ؟ قلت : بمحذوف تقديره:  ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك ، ما فعله إلا لهما . وهو إثبات الإسلام وإظهاره ، وإبطال الكفر ومحقه .(16)

v  اعتبر البعض أن حذف القسم يدخل تحت باب حذف الجملة، على تقدير أن القسم جملة. كالقول بأن تقدير القسم في قوله تعالى:((لقد استكبروا في أنفسهم و عتو عتواً كبيرا))؛ أقسم لقد استكبروا.(17)

v  و يدخل في حذف الجمل حذف المقابل:
ومن ذلك قوله تعالى: ((لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ )) (113آل عمران)
و التقدير: و أمة غير قائمة؛ فحذفت الجملة الاسمية لدلالة المذكور عليها، و في حذفها تحقير لتلك الأمة التي أعرضت عن آيات الله.(18)

(د)حذف أكثر من جملة (حذف التركيب):
يكثر هذا النوع من الحذف في سياق الأساليب القصصية، و قدكان المرحوم سيد قطب ممن برع في هذا المجال في كتابه (التصوير الفني في القرآن الكريم). و قد سمى هذا الحذف في المشاهد القصصية بالفجوة بين المشهد و المشهد، أو قطع المنظر و قصه، كما نلاحظ في العمل السينمائي، حيث تترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة يملأها الخيال،
و يستمتع بإقامة القنطرة بين المشهد السابق و المشهد اللاحق. و هذه ظاهرة تكاد تكون عامة في القصص القرآني، و لعلها تبرز أكثر في سورة الكهف و مريم و يوسف.(19)
*  ومن مشاهد قصة يوسف عليه السلام:
قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) ))(يوسف)
فقد حذف هنا تفصيلات جزئية تعرف من السياق، و في تخطيها وصول إلى العناصر الجوهرية في القصة، و في هذا ما ينبىء عن اللهفة إلى تجلية هذا الأمر، و يكشف عن تلك الحيرة التي وقعت في محيط الملك، و عصفت بكل شيء حوله، و التقدير فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأتاه و قال له: يوسف أيها الصديق..


*  و هنالك وجه آخر ذكر السامرائي أنه يدخل في باب الحذف؛
 و هو ما ذُكر في موطن ، و لم يذكر في موطن آخر يبدو شبيهاً به لأن الموطن اقتضاه.
ومن هذا الباب قوله تعالى في سورة الصافّات على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: ((إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87))(الصافات) .

و قوله في سورة الشعراء على لسانه أيضاً: ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) )(الشعراء)
فقال في الآية الأولى: (ماذا تعبدون) و قال في الآية الثانية: (ما تعبدون).
و هناك فرق بين (ما) و (ماذا) في الاستفهام، فإن في (ماذا) قوة
و مبالغة في الاستفهام ليست في (ما)، ففي قولك (ماذا فعلت؟) قوة ليست في (ما فعلت؟)، و لعل ذلك يعود إلى زيادة حروفها. و يدل على ذلك الاستعمال القرآني. و من ذلك ما جاء في الآيتين؛ فإنه إنما جاء في الآية الأولى بـ(ماذا) و في الثانية بـ(ما) لأن الأولى في موقف تحد ظاهر
و مجابهة قوية، بخلاف الثانية، و يدل على ذلك السياق.
فإن المقام في الأولى ليس مقام استفهام و إنما هو مقام تقريع، و لذلك لم يجيبوه عن سؤاله بل مضى يقرعهم بقوله:(( أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86))) و أما في الثانية فهو مقام استفهام المحاجّة إذ قال لهم ما تعبدون؟
فأجابوه قائلين:(( قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)))(الشعراء).
فالمقام هنا مقام محاجّة بخلاف الآية الأولى فإنه مقام تحدٍّ و تقريع
و مجابهة.(20)


المبحث الثالث
أدلة الحذف

الأدلة على الحذف كثيرة منها:(21)

1.   أن يدل العقل  على الحذف و المقصود الأظهر على تعيين المحذوف و ذلك مثل قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير))(3 المائدة)؛ و قوله تعالى: ((حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم و أخواتكم..))(23النساء).
فإن العقل يدل على الحذف إذ الأحكام إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان
و المقصود الأظهر في الآية الأولى تناولها الشامل للأكل و شرب الألبان، و في الآية الثانية نكاحهن.


2.   أن يدل العقل على الحذف و التعيين كقوله تعالى)) :و جاء ربك))(22الفجر)؛ أي أمر ربك
و بأسه و عذابه.

3.   أن يدل العقل على الحذف و العادة على التعيين كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: ((قالت فذلكن الذي لمتنني فيه))(32يوسف).
دل العقل على الحذف لأن الإنسان إنما يلام على كسبه؛ فيحتمل أن يكون التقدير: لمتنني في حبه لقوله تعالى:((قد شغفها حبا))(30يوسف)،
و يحتمل أن يكون لمتنني في مراودته لقوله تعالى:((تراود فتاها عن نفسه))(30 يوسف)، أو يكون التقدير لمتنني في شأنه و أمره فيشملهما.

و لكن العادة دلت على تعيين المراودة لأن الحب المفرط لا يلام عليه الإنسان في العادة لقهره صاحبه و غلبته إياه و إنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه و التي يقدر أن يدفعها عن نفسه.

4-أن تدل العادة على الحذف و التعيين كقوله تعالى:((لو نعلم قتالاً لاتبعناكم))(167آل عمران).
لقد كانوا أخبر الناس بالحرب فكيف يقولون بأنهم لا يعرفونها؟ فلا بد من حذف قدره الزمخشري بقوله: لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً
{ لاتبعناكم } يعنون أن ما أنتم فيه من رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء ، ولا يقال لمثله قتال.(22)

5-من أدلة الحذف أيضاً الشروع في الفعل كقول المؤمن: بسم الله الرحمن الرحيم فإذا قالها عند الشروع في القراءة فإنه يفيد بسم الله أقرأ و هكذا.
وهذا الباب من ذكر أدلة الحذف لم يذكره الكثير مفصلاً؛ بل اكتفوا بالإشارة إليه ضمنياً عند الحديث عن الحذف


المبحث الرابع
الأغراض البلاغية للحذف

إن هذا الكتاب العظيم الذي أنزل على المصطفى –صلى الله عليه
و سلم- لم يكن ليحوي أمراً عبثاً أو اعتباطاً، فكل شيء فيه بقدر، وكل حرف في وجوده أو حذفه يحقق غرض سواء أكان هذا الغرض فكري أو نفسي أو غيره.

و كما قال (دراز) في النبأ العظيم : فإن الشأو الذي بلغه القرآن في باب الحذف- كغيره- من أبواب البلاغة- ليس في متناول الألسنة
و الاقلام، و لا في متناول الاماني و الأحلام.(23)

و يقول الدكتور (محمد أبو زهرة) في كتابه المعجزة الكبرى أن  مما استنتجه من كلام الرماني في الإيجاز بالحذف:
أن الحذف في ذاته بلاغة إذ أنه يعطي الكلام قوة، و يثير الخيال ليتصور المحذوف أعلى من المبين.(24)

و في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الإيجاز و الإختصار لا يعتبر الهدف الوحيد للحذف، فالقرآن الكريم نفسه مليء بالأساليب الموجزة غاية الإيجاز دون ان يتوصل إلى هذا بالحذف.

*  و من الأغراض البلاغية للحذف:

أولاً: التهويل و الإبهام المقصود من ورائه التفخيم و الإعظام، كما في قوله تعالى:(( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)))(طه)
يقول الزمخشري:{ مَا غَشِيَهُمْ } من باب الاختصار . ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة ، أي : غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله .(25)

 ثانياً: التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف لخوف،
أو لرغبة في إبلاغ السامع في أقصر فترة زمنية كما في حالتي التحذير و الإغراء، من ذلك قوله تعالى: ((ناقة الله و سقياها))(13الشمس)
و (ناقة الله) تحذير بتقدير: ذروا.

ثالثاً: صيانة المحذوف عن ذكره تعظيماً و تشريفاً كقوله تعالى:(( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24))(الشعراء)، حيث حذف فيها المبتدأ في ثلاثة مواضع قبل ذكر الرب، أي هو رب، الله ربكم، الله رب المشرق المغرب. لأن موسى -عليه السلام-  استعظم حال فرعون و إقدامه على السؤال فأضمر اسم الله تعظيماً و تفخيماً.(26)

رابعاً: صيانة اللسان عن المحذوف تحقيراً له كما في قوله تعالى:(( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) ))(البقرة).

خامساً: و أخيراً رعاية الفاصلة القرآنية.

 و لا يسعنا في الختام إلا القول بأن للحذف البلاغي في القرآن الكريم غايات تسبر في أغوار النفس و تنبه الحس، و لا تقتصر على تحقيق الجمال الظاهر للنص.

و أسرار هذا الكتاب الربّاني العظيم المنبثقة من إعجازه لا تتناهى ولا تحدها حدود عقل أو فكر مهما بلغ من الرفعة .




هناك 14 تعليقًا:

  1. السلام عليكم
    جزاكم الله خيرا وجعله في موازيين حسناتكم

    ردحذف
  2. رااائع جزاك الله خيرا
    أول شرح منظم أجده في هذا المبحث

    ردحذف
  3. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  4. جزاك الله خيرا ولكن اين المصادر

    ردحذف
  5. جزاك الله خيرا ولكن اين المصادر

    ردحذف
  6. أين المصادر والمراجع

    ردحذف
  7. السلام عليكم ست ايناس...
    ارجو منرحضرتج نشر المصادر لكي استفيد من بعض النقاط

    ردحذف