02‏/05‏/2016

الإعجام وتاريخه


 الجامعة الأردنية/كلية الدراسات العليا/ قسم التفسير.
الطالبة: إيناس محمود ناصر.
موضوع الدراسة: الإعجام وتاريخه. 


المبحث الأول
تعريف الإعجام
-المطلب الأول: الإعجام لغة.
قال ابن منظور: والعجم النقط بالسواد، مثل التاء عليه نقطتان، يقال أعجمت الحرف. و التعجيم مثله.(1)
و في مختار الصحاح : النقط بالسواد كالتاء عليها نقطتان.(2)
-المطلب الثاني: الإعجام في الإصطلاح.
عرف العلماء الإعجام فقالوا:
هو النقط الدال على ذوات الحروف للتمييز بينها. فالعجم و الإعجام هو نقط الحروف التي حقها أن تنقط، و قد يتسع الإعجام أو العجم حتى يعني نقط الحروف و شكلها في آن واحد.(3) و زاد الفرماوي (للتفريق بين المشتبه منها في الرسم)، كنقط الباء بنقطة من تحت ، و نقط التاء باثنين من فوق...إلخ.(4) و لعل في تعريفه تقييداً للإعجام بمعنى نقط الحروف دون شكلها.
و هذا الظاهر في معنى الإعجام و الله أعلم؛ إذ إن التشكيل سمي بـ(نقط الإعراب)، في حين سمي النقط بـ(نقط الإعجام).
و هذا الخلط بين المسميين أدى فيما بعد للخلط في تحديد من قام بنقط الإعراب و من قام بنقط الإعجام.

المبحث الثاني
تاريخ النقط
اختلفت آراء الباحثين في تاريخ النقط مستنداً  كل منهم إلى عدد من الأدلة تتراوح ما بين قوة و ضعف، و توقع في بعض الأحيان الوهم بالتعارض فيما بينها.
و سأعرض في هذا المبحث هذه الأقوال، متبعة كل قول بما استند إليه من دليل .
-المطلب الأول: القول بأنه وضع متأخراً في الإسلام.
ذهب بعض الباحثين للقول بأن الإعجام و ضع متأخراً في الإسلام معتمدين في قولهم هذا على بعض الأدلة سواء أكانت هذه الأدلة روايات أم دراسات.
-المطلب الثاني: أدلة أصحاب هذا الرأي.
اعتمد أصحاب هذا الرأي للإستدلال على ما ذهبوا إليه على بعض الروايات التي تنسب النقط إلى أبي الأسود الدؤلي، أو نصر بن عاصم(4)، و يحيى بن يعمر(5). بالنظر إلى أن هاؤلاء جاؤوا في زمن متأخر من الإسلام؛ فإن كان النقط ينسب إليهم فهو بذلك متأخر في الإسلام كتأخر واضعيه.
و إليكم هذه الروايات:
أولا: روايات أبي الأسود الدؤلي:
قد وردت بعدة صيغ ،
احدها أن زياد هو من طلب ذلك من أبي الأسود ولم يجبه إلا بعد حين:
وذلك ما حدثنا محمد بن أحمد بن علي البغدادي قال ثنا محمد بن القاسم الانباري قال ثنا أبي قال حدثنا أبو عكرمة قال :قال العتبي: كتب معاوية رضي الله عنه إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن فرده إلى زياد وكتب إليه كتاباً يلومه فيه ويقول أمثل عبيد الله يضيع فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال يا أبا الأسود إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله تعالى فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل فوجه زياد رجلاً فقال له اقعد في طريق أبي الأسود فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن وتعمد اللحن فيه ففعل ذلك فلما مر به أبو الاسود رفع الرجل صوته فقال إن الله بريء من المشركين ورسوله فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ثم رجع الى زياد. .......................” (6)
وأخرى تقول أن أبا الأسود هو من طلب ذلك من زياد ولم يوافق إلا بعد حين:
- قال أبو عبيدة أخذ أبو الأسود عن علي العربية فسمع قارئاً يقرأ أن الله بريء من المشركين ورسوله فقال ما ظننت أن أمر الناس قد صار إلى هذا فقال لزياد الأمير ابغني كاتبا لقنا فأتى به فقال له أبو الأسود إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطه أعلاه وإذا رأيتني قد ضممت فمي فانقط نقطه بين يدي الحرف وإن كسرت فانقط نقطة تحت الحرف فإذا أتبعت شيئا من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين فهذا نقط أبي الأسود . (7)
- قال عمر بن شبة وحدثنا حيان بن بشر قال حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عاصم قال أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي فجاء إلى زياد بالبصرة فقال إني أرى العرب خالطت الأعاجم فتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون به ويقيمون كلامهم قال لا قال فجاء رجل إلى زياد فقال أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك فقال ادع لي أبا الأسود فقال ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم . (8)
 و قد ذكر ابن خلدون في مقدمته:
وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة ويقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب‏” (9)
- عن أبي الأسود قال دخلت على علي فرأيته مطوقا فقلت فيم تتفكر يا أمير المؤمنين قال سمعت ببلدكم لحنا فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية فقلت إن فعلت هذا أحييتنا فأتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف وما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ثم قال لي زده وتتبعه فجمعت أشياء ثم عرضتها عليه (10)
بالاضافة إلى أخبار تذكر القصة برواية أخرى:
قال المبرد حدثنا المازني قال السبب الذي وضعت له أبواب النحو أن بنت أبي الأسود قالت له ما أشد الحر فقال الحصباء بالرمضاء قالت إنما تعجبت من شدته فقال أوقد لحن الناس فأخبر بذلك عليا رضي الله عنه فأعطاه أصولا بنى منها وعمل بعده عليها وهو أول من نقط المصاحف. (11)
لعلنا نرى أن هذه الروايات على مجموعها لم تذكر نقط الإعجام، بل كانت الإشارة فيها إلى نقط الإعراب أوضح و هو ما قام به أبو الأسود الدؤلي على الأصح و الله أعلم.
ففي الرواية الأولى يظهر أن اللحن الذي وقع فيه الرجل الذي أرسله ياد كان لحنا في الإعراب إذ قرأ بالنصب بدل الرفع.أما الرواية الثانية فهي أوضح دلالة على أن ما قام به الدؤلي هو نقط الإعراب فقد تكلم عن الفتح و الضم و هذا من الإعراب، و كذلك في قصته مع علي كرم الله وجهه، فالصحيفة التي ألقاها إليه فيها الكلام عن الاسم و الفعل و الحرف...


ثانيا:الروايات التي تنسب النقط لنصر بن عاصم(ت89هـ)، ويحيى بن يعمر(ت129هـ).
-أخبرنا يونس بن عبدالله قال نا محمد بن يحيى قال نا أحمد بن خالد قال نا علي بن عبد العزيز قال نا القاسم بن سلام قال نا حجاج عن هارون عن محمد بن بشر عن يحيى بن يعمر وكان أول من نقط المصاحف أخبرنا عبد بن أحمد بن محمد في كتابه قال نا احمد بن عبدان قال نا محمد بن سهل قال نا محمد بن إسماعيل قال قال حسين بن الوليد عن هارون بن موسى أول من نقط المصحف يحيى بن يعمر، (12)
-أخبرت عن أبي بكر محمد بن محمد بن الفضل التستري قال نا محمد بن سهل بن عبد الجبار قال نا أبو حاتم قال قرأ يعقوب على سلام أبي المنذر وقرأ سلام على أبي عمرو وقرأ أبو عمر على عبد الله بن ابي إسحاق الحضرمي وعلى نصر بن عاصم الليثي ونصر أول من نقط المصاحف وعشرها وخمسها قال أبو عمرو يحتمل أن يكون يحيى ونصر أول من نقطاها للناس بالبصرة وأخذا ذلك عن أبي الأسود إذ كان السابق إلى ذلك والمبتدئ به، (13)
-يحيى بن يعمر الفقيه العلامة المقرئ أبو سليمان العدواني البصري قاضي مرو ويكنى أبا عدي وقيل إنه كان أول من نقط المصاحف وذلك قبل أن يوجد تشكيل الكتابة بمدة طويلة وكان ذا لسن وفصاحة أخذ ذلك عن أبي الأسود (14)
وللخروج من هذا التعارض هناك رأي آخر أن نصر وعاصم قاما بتنقيط الحروف”الاعجامبينما ماقام به أبو الأسود هو اعراب الكلمات، طبعا لايوجد أي دليل على ذلك لأن جميع الروايات تتحدث عن النقط “مايعرف اليوم بتشكيل الكلمات” أما الإعجام فلاينسب الى الدؤلي أو نصر أو يحيى، وهذه الرواية في وفيات الأعيان تخبرنا أن فعل عاصم كان النقط وليس الإعجام:
وحكى أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف أن الناس عبروا يقرؤون في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه نيفا وأربعين سنة إلى إيام عبد الملك بن مروان ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق ففزع الحجاج بن يوسف الثقفي إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفرادا وأزواجا وخالف بين أماكنها فغبر الناس بذلك زمانا لا يكتبون إلا منقوطا فكان مع استعمال النقط أيضا يقع التصحيف فأحدثوا الإعجام (15)
قال أبو عمرو: يحتمل أن يكون يحيى و نصر أول من نقطاها للناس بالبصرة، و أخذا ذلك عن أبي الأسود ، إذ كان السابق إلى ذلك، و المبتدئ به، و هو الذي جعل الحركات و التنوين لا غير، على ما تقدم في الخبر عنه.(16)
و بعد النظر في هذه الروايات و ضامينها  نرى أنها تخرجنا عن دائرة القول بأن الإعجام وضع متأخرا في الإسلام.إذ ليس هو المقصود و المشار إليه فيها.
أما ما استدل به أصحاب هذا القول من عدم العثور على وثائق ثثبت قدم النقط ، فهذا أمر مردود على ما سيرد لاحقا إن شاء الله.
-المطلب الثاني: القول بقدم النقط.
أولا: التسلسل التاريخي للنقط، و (الأدلة على قدمه).
أ- النقط من غير اللغة:
يذكر (أبو عمرو الداني) أن السريان هم أول من وضع الشكل في الكلمات. و ذلك عندما دخلوا في النصرانية، و نقلوا الكتب المقدسة إلى لغتهم؛ و رأو أن بعض الناس يلحنون في قراءتها، فخافوا أن ينشأ عن ذلك تحريف في اللفظ قد يغير المعنى و يؤدي إلى الكفر.
فاخترع الأسقف (يعقوب الرهاوي)460م، نقاطا كانت ترسم في حشو الحرف، ثم تحولت إلى نقطة مزدوجة تنوب عن الحركات الثلاث.(17)
ب- و يذكر الدكتور (مصطفى حجازي):
أن اللغة (الأكادية)- و هي من اللغات السامية- وصلتنا مكتوبة كتابة مقطعة، أي أن الكلمات تقسم وفق مقاطعها، فالخط الأكادي يثبت الحركات دائما. و من هنا فإن الباحثين يرون الإعراب على نحو ما تعرفه العربية، و ما تعرفه الأكادية ظاهرة أصيلة في اللغات السامية الأولى.(18)
ب- النقط في العهد الجاهلي:
تؤكد المراجع وجود نقط الإعجام في الكتابة العربية قبل نقط المصحف، مستبعدين أن تكون الحروف العربية مع تشابه صورها قد ظلت عارية عن النقط و الشكل إلى حين نقط المصاحف.
روي أن ابن عباس قال: «أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان، وهي قبيلة سكنوا الأنبار. وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة. وهم مرار بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، ويقال: مروة وجدلة. فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام. وسئل أهل الحيرة: ممن أخذتم العربي؟ فقالوا: من أهل الأنبار»
قال ابو عمرو النقط عند العرب إعجام الحروف في سمتها وقد روى عن هشام الكلبي انه قال أسلم بن خدرة أول من وضع الإعجام والنقط (19)  و هاؤلاء هم الذين ينسب إليهم ابتكار الخط العربي و الإعجام و النقط.
و بهذا ندرك: أن بداية تاريخ النقط مواكبة لتاريخ وضع الخط العربي.
يؤكد ذلك: أننا نجد للباء و التاء و الثاء مع اختلافها في النطق صورة واحدة. و كذلك الجيم و الحاء و الخاء، و الدال و الذال، و هلم جرا.(20)
ج- النقط في عهد الصحابة:
أورد ابن الجزري في كتابه (النشر) قولا يفهم منه أن النقط كان موجودا قبل كتابة مصحف عثمان، ثم عدل عنه عدولا مقصودا، إذ قال: (ثم إن الصحابة – رضي الله عنهم- لما كتبوا المصاحف جردوها من النقط و الشكل ليحتمله ما لم يمن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي-صلى الله عليه و سلم- و إنما أخلوا المصاحف من النقط  و الشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين...(21)
كما و قد كشف البحث عن وجود كتابات لهم بها بعض النقط و الشكل، مما يدل على أنهم كانوا يعرفونه معرفة يقينية، و إن كانت هذه الكتابات قليلة حتى الآن إلا أنها تسجل وجوده، و تشير إلى حقيقة معرفتهم له.
و من هذه الكتابات، التي وجدها المنقبون و الباحثون عن الآثار:
1- وثيقة بردية- و هي خطاب من أحد عمال عمرو بن العاص على (أهناسية)في مصر- يرجع تاريخها إلى سنة(22هـ) أي في عهد عمر بن الخطاب، و قد وجدت مكتوبة باللغتين العربية و اليونانية و فيها حروف( الخاء، و الذال، و الشين، و النون، في هذه البردية منقوطة.(22)
2- نقشا بقرب الطائف مؤرخ في (58هـ) أي في عهد معاوية بن أبي سفيان، و أكثر حروفه التي تحتاج إلى نقط منقوطة، و معجمة.(23)
و هذا يظهر لنا أن النقط كان موجودا و معروفا لدى الصحابة و إن لم يكثروا من إستعماله ،أو قاموا بإهماله.
ثانيا: سبب العدول عن النقط مع العلم به.
مع وجود النقط قبل الإسلام و اشتهار أمره، فإنه لم يكن يستعمل بكثرة- بل يكاد أن يكون متروكا- لعدد من الأسباب و هي:
أ- أن العرب كانوا ينطقون بالكلكات طبق أوضاعها، و إعرابها؛ لما هو متأصل في نفوسهم من سليقة الفصاحة و البلاغة و الإعراب.
و لذا كانوا يعدون نقط الكلام و شكله- حتى بعد أن اشتهر ذلك و كثر استعماله- سوء ظن بالمكتوب إليه. و من طريف ما يذكر لتصوير هذا السبب، قول الشاعر في كاتب نقط كتابا أرسله إليه و شكله:(24)
يا كاتبا كتب الغدة يسبني   من ذا يطيق براعة الكتاب
لم ترض بالإعجام حين كتبته   حتى شكلت عليه بالإعراب
أحسست سوء الفهم حين فعلته   أم لم تثق بي قراءة كتاب
لو كنت قطعت الحروف فهمتها   من غير وصلكهن بالأنساب
ب- أنه أدوات الكتابة التي كانت تستعمل حينها- كانت تجعل في النقط من المشقة و الصعوبة الفنية ما فيه؛ ذلك أنها كانت قطعا من الحجارة و الجلد...إلخ.
فضلا عن أن الذي كان يكتب – وقتها- سطورا قلائل، لا تغيب معرفتها عن سلامة سليقتهم، و صفاء قرائحهم، و توقد أذهانهم.(25)
ج- و يمكن أن يقال: إن عدم الإستعمال نجم عن التساهل و التناسي؛ و ذلك لعدم استعمالهم للكتابة بكثرة تعمل على حفظ النقط من النسيان.
و ينبه الدكتور ناصر الدين الأسد إلى قضية مهمة ؛ و هو أن أكثر الوثائق البردية- التي عثر عليها مؤرخة في القرن الأول الهجري- غير منقوطة و لا معجمة و ذلك يعني أن إهمال النقط فيما عثر عليه من نقوش جاهلية لا يعني ضرورة أن النقط لم يكن معروفا مستعملا، لأن إهمال النقط في النقوش و أوراق البردي الإسلامية لم يمنع وجود و ثائق و نقوش منقوطة.(26)

-أما عن سبب تجريد الكلمات القرآنية من النقط و الشكل فنقول:
قد كان الصحابة في أول كتابات القرآن يجردون المصاحف من النقط و غيره و يأمرون بذلك مما يدل على علمهم بها، و ذلك لحفظهم الآيات و لمعرفتهم للغة العربية، و علاقات الألفاظ بعضها مع بعض من جهة ، و بينها و بين المعاني من جهة أخرى.
 و قد يكون ذلك للدلالة على السعة في اللغات و الفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها و القراءة بما شاءت.
و هذا ما دل عليه كلام صاحب النشر، إذ يقول:
كان من النقاط البارزة في عمل اللجنة التي وضعت في عهد عثمان لنسخ المصحف:( تجريد كل الكلمات القرآنية في كل المصاحف، عن النقط و الشكل، و ذلك، لتحتمل- هذه الكلمات- ما صح نقله، و ثبت تلاوته من القراءات عن الرسول صلى الله عليه و سلم؛ إذ كان الإعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط.(27)
فالنقط إذا كان موجودا و إن عدل عنه عند كتابة كلمات القرآن، فهذا العدول كان قانونا متبعا لتحقيق هدف ما أو لعدم الحاجة إليه. و غياب الأسباب الداعية للجوء الصحابة للقيام بهذا النقط.
ثالثا:فما الذي أوجب هذ النقط بعد ذلك ، و ما الأسباب التي دعت إليه؟؟! و من الذي قام به؟؟:
السبب في إحداث النقط و ضبط المصاحف به هو فساد ألسنة العرب و وقوع اللحن في قراءة القرآن، فلما اختلط العرب بالأعاجم و تناسلوا معهم، ظهر جيل جديد فنشأ اللحن في كلامه.(28)
يقول أبو عمرو الداني في هذا الخصوص:(اعلم أيدك الله بتوفيقه، أن الذي دعا السلف -رضي الله عنهم- إلى نقط المصاحف.. ما شاهدوه من أهل عصرهم، مع قربهم من الفصاحة و مشاهدة أهلها، من فساد ألسنتهم، و اختلاف ألفاظهم.(29)
أما بخصوص من قام بهذا النقط ، فيبدوا أن الصحابة -رضوان الله عليهم – هم الذين بدؤوا بنقط المصاحف؛ فقد جاء في المحكم عن الأوزاعي: قال سمعت قتادة يقول بدؤوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا قال أبو عمرو هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين رضوان الله عليهم هم المبتدئون بالنقط ورسم الخموس والعشور لأن حكاية قتادة لا تكون لا عنهم إذ هو من التابعين وقوله بدؤوا الى آخره دليل على أن ذلك كان عن اتفاق من جماعتهم.
-و عقب أبو عمرو الداني على ذلك بقوله: (30)
(هذا يدل على أن الصحابة و أكابر التابعين رضوان الله عليهم هم المبتدئون بالنقط و رسم الخموس و العشور، لأن حكاية قتادة لا تكون إلا عنهم، إذ هو من التابعين)
ويعضد هذه الرواية خبر آخر:
حدثنا خلف بن إبراهيم قال نا احمد بن محمد المكي قال نا علي بن عبد العزيز قال نا القاسم بن سلام قال نا إسحاق الأزرق عن سفيان عن سلمة ابن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله قال جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء .
فإذا علمنا أن عبد الله بن مسعود توفي عام 32 هجرية، فهذاالتاريخ سابق على فعل الدؤلي أو نصر أو عاصم .
و بعد ذلك جاء جيل التابعين ، و اهتموا بانقط، و تدولوه حتى جعلوا منه نظاما له قواعد و أصول تتبع.
الخاتمة:
لعل إمعان النظر في ما مر معنا من الروايات و الأدلة على موضوع النقط و تاريخه، يرشدنا إلى أمر مهم جدا؛ و هو أن عملية النقط إنما كانت عملية مرحلية تسلسلية، فلا تعارض و لا اختلاط في الروايات كما بيَنا سابقا، و هي كل مكمل لبعضه. فهي تشير إلى ذلك التسلسل في موضوع النقط  والإعجام؛  فقد وجد قبل الإسلام، و استخدم من الصحابة، وقعد له التابعون.
و الله تعالى أعلم
















الهوامش
(1) ابن منظور، أبي الفضل جمال الدين.
لسان العرب، دار الحديث، القاهرة،2003م،مج6، باب العين،ص109.

(2) مختار الصحاح.

    (3) إبراهيم جمعة.
قصة الكتابة العربية،ط د،ص51.

    (4) نصر بن عاصم الليثي النحوي، المعروف بنصر الحروف، من قدماء التابعين، فقيه عالم بالعربية، يسند إلى الإمام أبي الأسود الدؤلي في القرآن، و النحو.(ت 89هـ).

    (5) يحيى بن يعمر الفقيه، أبو سليمان العدواني البصري، قضي مرو، من الطبقة الثانية من التابعين، توفي قبل التسعين.

   (6) أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني.
المحكم في نقط المصاحف، مديرية إحياء التراث القديم، دمشق،1960م، تحقيق د.عزة حسن،ص1.

    (7) شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، (ت748هـ)
سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة،بيروت-لبنان،ط11، ج4، ص83.

    (8) سير أعلام النبلاء، ج4، ص83

    (9) مقدمة ابن خلدون(57)، ج4، الفصل(30) في أن الخط و الكتابة في عداد الصنائع الإنسانية.

   (10) سير أعلام النبلاء،ج4، ص84.
 
   (11) سير أعلام النبلاء،ج4، ص84.

   (12) المحكم في نقط المصاحف،ص5.

   (13) المحكم في نقط المصاحف،ص6.

   (14) سير أعلام النبلاء،ج4، ص441.

  (15) ابن خلكان، شمس الدين أحمد بن محمد(ت681هـ)
وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان، دار صادر، بيروت-لبنان،ط د، تحقيق د.احسان عباس، ج3، ص344.

(16) المحكم،ص6.

(17) مقدمة المحكم، ص5.

(18) محمود فهمي حجازي.
علم اللغة العربية مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث و اللغات السامية، مكتبة غريب، ط د، ص 144.

(19) المحكم، ص14.

(20) عبد الحي الفرماوي.
قصة النقط و الشكل في المصحف الشريف،دار النهضة العربية، القاهرة، ط د، ص 29.

(21) ابن الجزري، (ت833هـ).
تقريب النشر في القراءات العشر، دار الحديث- القاهرة، ط2، 1992م، تحقيق إبراهيم عطوة عوض، ص58.

(22) ناصر الدين الأسد.
مصادر الشعر الجاهلي و قيمتها التاريخية، دار المعارف-مصر، ط2، 1962م، ص40.

(23) مصادر الشعر الجاهلي،ص40.

(24) قصة الكتابة العربية،ص 51-54.

(25) مصادر الشعر الجاهلي، ص40.

(26) مصادر الشعر الجاهلي، ص40.

(27) تقريب النشر، ص58.

(28) قصة الكتابة العربية، ص49.

(29) المحكم في نقط المصاحف،ص 18-19.

(30) المحكم، باب ذكر المصاحف و كيف كانت عارية من النقط، و خالية من الشكل، ص1-2-3.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق